بسم الله الرحمن الرحيم
( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلين )
سورة التحريم الآية 10
تفسير الآية
إنّ إحدى الاَساليب التربوية ، هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الاَخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوىَ الاَخلاق ، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الاَنبياء ابتليتا بالنفاق و الخيانة ، ولم ينفعهما قربهما من أنبياء الله .
ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل ، هو التنديد بزوجتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) اللّتين اشتركتا في إفشاء سره ، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول ، كما لم ينفع زوجة نوح و لوط ، فواجهتا العذاب الاَليم.
يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول : ( وَ إِذْ أَسَـرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّـا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبير )
وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب:
1. انّ النبي (ص ) أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً، كما يقول سبحانه : ( و إذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ) ، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح ، ولايمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه وغيره.
2. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره و أفشته ، فحدّثت به زوجة أُخرى ، كما يقول سبحانه : ( فلمّا نبّأت به ) ، والمفسرون اتفقوا على أنّ الاَولى منهما هي حفصة والثانية هي عائشة . وبذلك أساءت الصحبة ، وأفشت سر الرسول (ص ) ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر .
3. انّه سبحانه أخبر النبي (ص) به، كما يقول سبحانه : ( و أظهره الله عليه) أي أطلعه الله عليه.
4. انّ النبي (ص) عرّف حفصة ببعض ما ذكرت ، وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت ، و كان (ص) قد علم جميع ذلك ، ولكنّه أخذ بمكارم الاَخلاق ، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها ، والتغافل من خلق الكرام ، وقد ورد في المثل : ( مااستقصى كريم قط ) .
5. لما أخبر رسول الله (ص) حفصة بما أظهره الله عليه سألت ، وقالت : من أخبرك بهذا؟ ، فأجاب الرسول : نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه: ( فلمّا نبّأها به ، قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ).
وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص ، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة ، لاَجل ما كسبت قلوبهما من الآثام ، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبي (ص) ، فاعلما انّ الله يتولّـى حفظه و نصرته ، وأمين الوحي معين له و ناصر يحفظه ، وصالح الموَمنين و خيارهم يوَيدونه ، وبعدهم ملائكة الله من أعوانه . كما يقول سبحانه : ( ان تتوبا فقد صغت قلوبكما ) أي مالت إلى الاِثم ، و إن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي ، فانّ الله مولاه و جبرئيل و صالح الموَمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير.
هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية ، حيث إنّ حفظ الاَمانة من واجب الزوجة حيال زوجها ، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند الله سبحانه ، حيث تجعلهما على مفترق الطرق : إمّا التوبة لاَجل الاِثم ، و إمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه ، لاَنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح الموَمنين.
وبما انّ السورة ، تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما . إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد: ما بغت امرأة نبي قط ، وإنّما كانت خيانتهما في الدين.
قال ابن عباس : ( كانت امرأة نوح كافرة ، تقول للناس ، إنّه مجنون ، و إذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح ، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه ) .
وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الاَربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ ، و بذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة . و قد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب الله ، ولم يقفن على أنّ مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان و عمل صالح ، قال سبحانه: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ ) ، و قال سبحانه مخاطباً بني آدم : ( يا بَنِى آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
" الأمثال في القرآن الكريم "